فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {واصبر نَفْسَكَ} فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة:
فصبرت عارفة بذلك حرة ** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

والغداة: أول النهار. والعشي آخره. وقال بعض العلماء: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} أي يصلون صلاة الصبح والعصر. والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}.
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة- أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم، طموحًا إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا. معنى {لا تعد عيناك}: أي لا تتجاوزهم عيناك وتنبوا عن رثاثة زيهم، محتقرًا لهم صامحًا إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلًا منهم.
وعدا يعدو: تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم. والجملة في قوله: {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} في محل حال والرابط الضمير، على حد قوله في الخلاصة:
وذات بدء بمضارع ثبت ** حوت ضميراُ ومن الواو خلت

وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله: {عيناك} وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه، على حد قوله في الخلاصة:
ولا تجز حالًا من المضاف له ** إلا إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ماله أضيفا ** أو مثل جزئه فلا تحيفا

وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق، كمجالسة فقراء المؤمنين- أشار له أيضًا في مواضع أخر، كقوله: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا} [طه: 130-131] الآية، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآن العظيم لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} [الحجر: 87-88] الآية.
قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه، وكان أمره فرطًا. وقد كرر في القرآن نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه، كقوله تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، وقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] الآية، وقوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 9-13] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم. وذلك في قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} [النجم: 29-30].
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية، إنما هو بمشيئة الله تعالى. إذالا يقع شيء البتة كائنًا ما كان إلا بمشيئة الكونية القدرية، جل وعلا، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30] الآية، {وَلَوْ شَاءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 107]، {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى}، {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] الآية، {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر، لا يقع إلا بمشيئة خالق السموات والأرض. فما يزعمه المعتزلة، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائمًا- تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفًا، وأمثالها في القرآن كثيرة.
ومعنى اتباعه هواه: أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر، كالكفر والمعاصي.
وقوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قيل: هو من التفريط الذي هو التقصير، وتقديم العجز بترك الإيمان. وعلى هذا فمعنى {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي كانت أعماله سفهًا وضياعًا وتفريطًا. وقيل: من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين: نحن أشراف مضر وساداتها! إن اتبعناك اتبعك جميع الناس. وهذا من التكبر والإفراط في القول. وقيل {فرطًا} أي قدما في الشر.. من قولهم: فرط منه أمر، أي سبق. وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن معنى قوله: {فرطًا}: أي متقدمًا للحق والصواب، نابذًا له وراء ظهره. من قولهم: فرس فرط، أي متقدم للخيل. ومنه قول لبيد في معلقته:
ولقد حميت الخيل تحمل شكتي ** فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها، كقول قتادة ومجاهد {فرطًا} أي ضياعًا. وكقول مقاتل بن حيان {فرطًا} أي سرفًا. كقول الفراء {فرطًا} أي متروكًا. وكقول الأخفش {فرطًا} أي مجاوزًا للحد، إلى غير ذلك من الأقوال. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها، وأخبرك الله بها فأجبتهم، اعلم أن لك ربًا رفيقًا بك، لا يتخلّى عنك ولا يتركك لكيدهم، فإنْ أرادوا أن يصنعوا لك مأزقًا أخرجك الله منه، وإياك أنْ تظنَّ أن العقبات التي يقيمها خصومك ستُؤثّر في أمر دعوتك.
وإنْ أبطأتْ نُصْرة الله لك فاعلم أن الله يريد أنْ يُمحِّص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمرُّ بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا مَنْ هو مأمون على حَمْل هذه العقيدة.
وقوله: {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] لأن كلمات الله لا يستطيع أحد أنْ يُبدِّلها إلا أنْ يكون معه سبحانه إله آخر، فما دام هو سبحانه إلهًا واحدًا لا شريك له، فاعلم أن قوله الحق الذي لا يُبدّل ولا يُغيّر: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] أي: ملجأ تذهب إليه؛ لأن حَسْبك الله وهو نِعْم الوكيل، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي}.
نزلتْ هذه الآية في أهل الصُّفَّة وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم، لماذا لا يعملون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: نريد أن تلتفت إلينا، وأن تترك هؤلاء المجاذيب، فأنزل الله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الكهف: 28].
لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلاء الذين نُسمِّيهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة الله أن لا نحتقرهم، ولا نُقلِّل من شأنهم أو نتهمهم؛ لأن الله تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون، ذلك أن صاحب الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دُنْياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من الدنيا، وألقاها وراء ظهره، وراح يستند إلى حائط المسجد مُمدّدًا رجلًا، لا تعنيه أمور الدنيا بما فيها.
ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إنْ أصابه مكروه أو نزلتْ به نازلة يُهْرَع إلى هذا الشيخ يُقبّل يديه ويطلب منه الدعاء، وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلاء المجاذيب ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها.
وأيضًا، كثيرًا ما ترى أهل الدنيا في خِدْمة هؤلاء العباد، ففي يوم من الأيام قُمْنا لصلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، وكان معنا رجل كبير من رجال الاقتصاد، فإذا به يُخرج مبلغًا من المال ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات، فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم الصغير، فإذا برجل الاقتصاد الكبير يقول له: لا، لابد من جنيهات من الحجم الكبير؛ لأن فلانًا المجذوب على باب الحسين لا يأخذ إلا بالجنيه الكبير، فقلت في نفسي: سبحان الله مجذوب على باب المسجد وشغل أكبر رجل اقتصاد في مصر، ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد.
ثم يقول تعالى: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] أي: اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لأن مَدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} [الكهف: 28] لأنك إنْ فعلتَ ذلك وانصرفتَ عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها.
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصُّفَّة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يُقوِّي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دَيْدنهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرُّب إليه.
لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعًا كأهل الصُّفَّة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قِلّة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أُسْوة تُذكِّر الناس وتكبح جماح تطلّعاتهم إلى الدنيا.
ومن العجيب أن ترى البعض يدَّعي حال هؤلاء، ويُوهِم الناس أنه مجذوب، وأنه وَليٌّ نَصْبًا واحتيالًا، والشيء لا يُدَّعَى إلا إذا كانت من ورائه فائدة، كالذي يدَّعي الطب أو يدَّعي العلم لما رأى من مَيْزات الطبيب والعالم. فلما رأى البعض حال هؤلاء المجاذيب، وكيف أنهم عزفوا عن الدنيا فجاءتْ إليهم تدقُّ أبوابهم، وسعى إليهم أهلها بخيراتها، فضلًا عَمَّا لهم من مكانة ومنزلة في النفس ومحبة في القلوب.
فلماذا إذنْ لا يدعون هذه الحال؟ ولماذا لا ينعمون بكل هذه الخيرات دون أدنى مجهود؟ وما أفسد على هؤلاء العباد حالَهم، وما خاض الناس في سيرتهم إلا بسبب هذه الطبقة الدخيلة المدَّعية التي استمرأتْ حياة الكسل والهوان.
ثم يقول تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا مَنْ غفل عن ذكر الله، أما مَن اطمأن قلبه إلى ذِكْرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصُّفَّة، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم، فكيف يأمر بالانصراف عنهم؟
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله: «أوحى الله إلى الدنيا: مَنْ خدمني فاخدميه، ومَنْ خدمك فاستخدميه» فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمانُ قلبه، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يَدَع.
وقوله تعالى: {واتبع هَوَاهُ} [الكهف: 28] أي: أن هذا الذي يُحرِّضك على أهل الصُّفَّة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله، فما دام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله، إنه مشغول بمطلوب نفسه؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تِبَعًا لما جئتُ به».
فالمؤمن الحق سليم الإيمان مَنْ كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله، لا يحيد عنه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] أي: كان أمره ضياعًا وهباءً، فكأنه أضاع نفسه. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}.
بدء فيه استقامة، وفيه صرامة. وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب {على عبده} بهذه الاستقامة، لا عوج فيه ولا التواء، ولا مداراة ولا مداورة: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه}.
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم، فلا لبس في العقيدة ولا غموض: الله هو الذي أنزل الكتاب، والحمد له على تنزيله، ومحمد هو عبد لله. فالكل إذن عبيد، وليس لله من ولد ولا شريك.
والكتاب لا عوج له.. {قيمًا}.. يتكرر معنى الاستقامة مرة على طريق نفي العوج، ومرة عن طريق إثبات الاستقامة. توكيدًا لهذا المعنى وتشديدًا فيه.
والغرض من إنزال الكتاب واضح صريح: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا}.
ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله. فهو يبدأ به على وجه الإجمال: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه}. ثم يعود إليه على وجه التخصيص: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا}.. وبينهما تبشير للمؤمنين {الذين يعملون الصالحات} بهذا القيد الذي يجعل للإيمان دليله العملي الظاهر المستند إلى الواقع الأكيد.
ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها. قضية العقيدة: {ما لهم به من علم ولا لآبائهم}.. فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم، هكذا جزافًا: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا}.. وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها. فهو يبدأ بكلمة {كبرت} لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما. ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزًا لضميرها في الجملة: {كبرت كلمة} زيادة في توجيه الانتباه إليها. ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجًا كأنما تنطلق منها جزافًا وتندفع منها اندفاعًا {تخرج من أفواههم}. وتشارك لفظة {أفواههم} بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها، فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد: {أفوا} ثم تتوالى الهاءان فيمتلئ الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة: {أفواههم}. وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل. ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء: {إن يقولون إلا كذبًا}: ويختار للنفي كلمة: {إن} لاكلمة {ما} لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح، وفي لفظ {ما} شيء من الليونة بالمد.. وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار، ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة.. وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مود بهم إلى الهلاك، فيما يشبه الإنكار يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا}!